فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي: ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
قلت: ويحتمل أن يعود قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي من كافري الجن والإنس، أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله تعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قال ابن جرير: أي وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلِكُلّ} أي من المكلفين من الثقلين {درجات} متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة {مّمَّا عَمِلُواْ} من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب، وقرئ بالتاء تغليبًا للخطاب على الغَيْبة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِكُلّ} من المكلفين جنًا كانوا أو إنسًا {درجات} أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبًا {مّمَّا عَمِلُواْ} أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر {تَعْمَلُونَ} بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول {يَعْمَلُونَ} بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
احتراس على قوله: {ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم} [الأنعام: 131] للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالببِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم.
والتّنوين في: {ولكل} عوض عن المضاف إليه: أي ولكلّهم، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات.
يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة.
فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم.
والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة.
بعد أن عُذّبوا في الدّنيا.
فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب.
فتلك درجة نالوها في الدّنيا، وهي درجة إظهار عناية الله بهم، وتُرفع درجتهم في الآخرة.
والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة.
وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى: {واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة} [الأنفال: 25] روى البخاري، ومسلم، عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذابُ من كان فيهم ثمّ بُعثوا على أعمالهم».
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي في الشُعب مرفوعًا أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهللِ نقمته وفيهم الصّالحون قُبضوا معهم ثمّ بُعثوا على نياتهم وأعمالهم، صحّحه ابن حِبّان.
وفي صحيح البخاري، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين (أي عقد أصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعُقَد بضم العين وفتح القاف) قِيل: أنهلك وفينا الصّالحون، قال: نَعَم إذا كثر الخُبْث».
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى، في سُلم أو بناء، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات، ولذلك قال تعالى: {يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] وقال: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار} [النساء: 145] ولمّا كان لفظ (كلّ) مرادًا به جميع أهل القرية، وأتى بلفظ {الدّرجات} كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لِتَطمئنّ نفوسُ المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب: في الدّنيا بالهجرة، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنَّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين، ففي هذه الآية إيذان بأنَّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقدْ عُلم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نِذارة المشركين.
و{مِن} في قوله: {مما عملوا} تعليلية، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم.
وقوله: {وما ربك بغافل عما يعملون} خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم.
قرأ الجمهور: {يعلمون} بياء الغيبة فيعود الضّمير إلى أهل القرى، والمقصود مشركو مكّة، فهو للتّسليّة والتّطمين لئلا يستبطئ وعد الله بالنَّصر، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب: واسمعي يا جارة.
وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب، فالخطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم، ترشيحًا للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه، ليكون سَلًا لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
{وَلِكُلٍّ}، وجاءت بالتنوين أي لكلٍّ من الإِنس والجن درجات مما عملوا، فكأن الأعمال تتفاوت؛ فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل، أو بإخلاص المقارف للعمل والمكتسب والفاعل له، فهناك من يخلص بكل طاقته، وهناك من يؤدي عمله بنصف إخلاص، ومسألة الإِخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم مبلغًا عن رب العزة هذا الحديث القدسي: «الإِخلاصُ سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي».
إذن فمقاييس الإِخلاص لا يعرفها إلا ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون الدرجات. وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عليه؛ فالحق قد فرض صلوات خمسًا، فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلًا. والله قد فرض الصيام شهرًا، فيصوم العبد يومي الاثنين والخميس.
والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، وحينما سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف الذي لا يؤدي إلا الفروض فقط، قال له: «أفلح إن صدق،» فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد فلاحًا. ولا يصل الإِنسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحًا إلا إذا كان في درجة أعلى، وكلمة {دَرَجَاتٌ} تفيد العُلّو، وكلمة دركات تفيد الهبوط، والحق لا يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لأي عبد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
المحسن في روْح الثواب متنعِّم، والمذنب في نوْح العذاب متألم. اهـ.

.قال التستري:

وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ}، وقال في صفة المريد: شغل المريد إقامة الفرض والاستغفار من الذنب وطلب السلامة من الخلق. وقال سهل: إن الله عزَّ وجلَّ ينظر في القلوب والقلوب عنده، فما كان أشدها تواضعًا له خصه بما شاء ثم بعد ذلك ما كان أسرعها رجوعًا، وهما هاتان الخصلتان. وقال: ما اطلع الله على قلب فرأى فيه همّ الدنيا إلاَّ مقته، والمقت أن يتركه ونفسه. والقلب لا يملكه أحد إلاَّ الله تعالى، ولا يطيع أحدًا إلاَّ الله، فإذا ذكرت به فضع سرك مع الله، فإنه ليس من أحد وضعت سرك عنده إلاَّ هتكه، إلاَّ الله عزَّ وجلَّ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مِمَّا عَمِلُوا} في محلِّ رفع نعتًا لـ {دَرَجَات}.
وقيل: ولكلِّ من المؤمنين خاصَّة.
وقيل: ولكلِّ من الكُفَّار خاصَّة؛ لأنها جَاءَت عَقِيب خطاب الكُفَّارِ؛ إلا أنَّه يبعده قوله: {دَرَجَاتٌ} وقد يُقَال: إن المُرَاد به هُنَا المراتِب، وإن غلب استْعِمَالُها في الخير {وما ربُّكَ بغافلٍ عمَّا يعَمْلونَ} قرأ العامّة بالغيبة رَدًّا على قوله: {ولكُلِّ درَجَاتٌ} وقرأ ابن عامرٍ بالخطابِ مُراعَاةً لما بَعْدَهُ في قوله: {يُذْهبْكم}، {مِنْ بَعْدِكُمْ}، كما {أنشأكم}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (133):

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز، قال مرغبًا مرهبًا: {وربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله: {الغني} أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها {ذو الرحمة} أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجودًا، استأنف بيان ذلك، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحًا بما أفاده: {إن يشأ يذهبكم} أي جميعًا بالإهلاك، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء غير مشيئته، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكرامًا لنبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال تحقيقًا لغناه أيضًا: {ويستخلف}.
ولما كان لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: {من بعدكم} أي بعد هلاككم {ما يشاء} أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه {كما أنشأكم من ذرية} أي نسل {قوم آخرين} أي بعد أن أهلكهم أجمعين، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفًا في أصلابهم، لم يكن في واحدة منها حياة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنيًا فإن رحمته عامة كاملة، ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار، إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال: {وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة} ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية، فنفتقر هاهنا إلى بيان أمرين: الأول: إلى بيان كونه تعالى غنيًا.
فنقول: إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، لأنه لو كان محتاجًا لكان مستكملًا بذلك الفعل، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، وهو على الله محال، وأيضًا فكل إيجاب أو سلب يفرض، فإن كان ذاته كافية في تحققه، وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته وإن لم تكن كافية، فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه، فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق.
واعلم أن قوله: {وَرَبُّكَ الغنى} يفيد الحصر، معناه: أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك، لأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج، فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله سبحانه: {وَرَبُّكَ الغنى} وأما إثبات أنه {ذُو الرحمة} فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات.
إما بحسب الأحوال الجسمانية، وإما بحسب الأحوال الروحانية فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه، وبإيجاده وتكوينه.
ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيرًا فالصحيح أكثر منه، والجائع وإن كان كثيرًا فالشبعان أكثر منه، والأعمى وإن كان كثيرًا، إلا أن البصير أكثر منه.